< تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل >
لا يخلو شخص من نقص، ومن المستحيل يجد كل ما يريده أحدنا في الطرف الآخر كاملاً..
كما أنه لا يكاد يمر وقت دون أن يشعر أحدنا بالضيق من تصرف عمله الآخر .
ولهذا على كل واحد منا تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات، أو طبائع، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل:
" تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"
التغــافل
التغافل لغةً : هو تعمد الغفلة، و أرى من نفسه أنه غافلُ و ليس به غفلة
التغافل : وهو تكلف الغفلة معا لعلم والإدراك لِمَا يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور .
النبي صلى الله عليه وسلم والتغافل
قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْبَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [ التحريم:3 ] . أي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة معاتباً لها،
ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب.
قال الحسن:
ما استقصى كريمٌ قط.
وقال سفيان:
ما زال التغافل من شيم الكرام.
واعلم أن من الدهاء كل الدهاء التغافل عن كل ذنب لاتستطاع العقوبة عليه، ومن عداوة كل عدو لا تقدر على الانتصار منه.
فأما التغافل عن ما لا يعني فهو العقل.
وقد قال الحكماء:
لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً.
النبي صلى الله عليه وسيلم في الطائف
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم .
و أشار صاحب الهمزية بقوله:
جهلت قومه عليه فأغضى وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال .
الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم والتغافل
دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلمه في حاجة له، ووضع نصل سيفه على الأرض فجاء على أُصبع رجلِ الأمير، وجعل يكلمه فيحاجته وقد أدمى النصلُ أُصبعه، والرجل لا يشعر، والأمير لا يظهر ما أصابه وجلساء الأمير لا يتكلمون هيبة له، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بن مسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله، فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحك الله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها؟ فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته.
فلقد كان في قدرة الأمير أن يأمره بإبعاد نصل سيفه عن قدمه، وليس هنالك من ملامة عليه، أو على الأقل أن يبعد الأمير قدمه عن نصل سيفه، ولكنه أدب التغافل حتى لا يقطع على الرجل حديثه، وبمثل هذه الأخلاق ساد أولئك الرجال.
من كان يرجو أن يسود عشيرة
فعليه بالتقوى ولين الجانب
ويغض طرفا عن إساءة من أساء
ويحلم عند جهل الصاحب
لماذا سمي حاتم الأصم بذلك؟
القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي ، الواعظ الناطق له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم ، كان يقال له:
" لقمان هذه الأمة " .
قال أبو علي الدقاق:
جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة ، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت ،فقال حاتم : ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصمّ فسرّت المرأة بذلك ، وقالت : إنه لم يسمع الصوت فلقّب بحاتم الأصم. انتهى.
[ مدارج السالكين ج2ص344].
هذا الأدب الذي وقع من حاتم الأصم هو من أدب السادة ، أما السوقة فلا يعرفون مثل هذا الآداب، ولذلك تراهم لدنو همتهم يحصون الصغيرة، ويجعلون من الحبة قبة، ومن القبة مزاراً ، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء على الآخرين فنون متنوعة من ضروب الذكاء والخداع، ولكنه ذكاء أشبه بإمارات أهل الحمق والترق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم، ولا يلقون بالا للكبائر عند أنفسهم، وأمثال هؤلاء لا يكونون من السادة في أقوامهم الذين عناهم الشاعر بقوله:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
وقال الحسن:
"ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض "
[ تفسير القرطبي ج18 ص188] .
وقال الشاعر :
أحب من الأخوان كل مواتي
وكل غضيض الطرف عن هفوات
ومن المواقف الجلية في أدب التغافل، ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال:
إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد.
[ تاريخ مدينة دمشق ج:40 ص:401].
صلاح الدين والتغافل
قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:
'وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولايعلمه بذلك، ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموزيعني ـ بنعل ـ
فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقربمنه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها'.
التغافل و المشاكل الزوجية :
وأما المشاكل العابرة فهي المشاكل التي يفتعلها أحد الزوجين بشكل استثنائي عابر, وهي ليست من صفاته الدائمة, وإنما كما يقال:
لكل عالم هفوة , ولكل جواد كبوة .
ومثالنا على ذلك:
كأن يستهزئ الزوج بزوجته وليس من عادته الاستهزاء, أو أن يتحدث عن بعض عيوبها أمام أهلها وليس من عادته فعل ذلك,
وهذه التصرفات يكفي في علاجها الإشارة فقط , ولا ينبغي لأي من الزوجين أن يعاتب الأخر ويهجره من أجل هذه التصرفات وذلك باعتبار أنها عابرة وليست دائمة والأصل في المشاكل العابرة إتباع أسلوب التغافل معها .
من فقه الحياة الزوجية التغاضي عن دقيق المحاسبة:
ولكلٍ من الزوجين على الآخر حق ، وربما كانت الدقة في المراقبة والشدة في المحاسبة من بواعث الاضطراب وعدم الاستقرار، وفي التغافل أحياناً، والمرونة أحياناً كفالة باستدامة السعادة، وبقاء المعاشرة الجميلة، كل ذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية
م-ن