نشات دولة البويهيين بالاساس نتيجة جهود ثلاثة اخوة. كان ابوهم فقير الحال. شائت ظروف الحياة ان يكون هؤلاء الاولاد في خدمة ملك الفرس مردارش، وبعدما اكتشف الملك صفة الشجاعة القتالية والكفائة الادارية فيهم الزمهم مناصب حكومية عالية في مملكته. وعندما قتل هذا الملك انقلب الاخوة على مملكته وتمكنوا من فرض سيطرتهم على المدن الرئيسية فيها، وعندما استتب الوضع السياسي لهم بعشر سنوات اتجهوا بجيش جرار صوب العراق واحتلوا بغداد عاصمة الا مبراطورية العباسية.
في البداية قطع الاخوه الثلاثة العهد للخليفة العباسي وبايعوه، لكنهم نكثوا العهد فيما بعد واصبحوا هم الحكام الفعليين في البلاد. لكن شهد لهم التاريخ انهم اهتموا بالعمران ونشروا العلوم والاداب وثقافتهم الفنية الحاذقة.
لقد اصبح الخليفة في الدولة العباسية في اواخر ايامها العوبة في ايدي الامراء البويهيين فقد جردوه تدريجيا من معظم سلطاته الدينية والدنيوية. ونتيجة لازدياد نفوذ الاتراك في جيشهم وسياسات اجتماعية ومذهبية خاطئة، سقطت دولتهم على يد السلاجقة.
حكمت اسرة بويه رقعة كبيرة من العالم الأسلامي عرفت بالدولة البويهية ابتدات عام 321 للهجرة، كان ابوهم بويه صياد سمك يعيش في احدى محافظات ساحل بحر قزوين بينما اولاده كانوا في خدمة الملك كما اسلفنا، وعندما استولوا على ملكه بعد موته زحفوا الى مدن اصفهان وهمدان وشيراز وكرمان والري – طهران الحاليه – واستولوا عليها ونجحوا في بناء صرح دولتهم في بلاد فارس،
وعندما دخلوا العراق عن طريق حلوان نزل احمد ابن بويه في معسكر باب الشماسة حيثما اخذت عليه البيعة للخليفة العباسي المستكفي بالله الذي استحلف له باغلظ الايمان ان يحافظ على سلطة الخلافة ويحترم سيادتها، بعدها قام الخليفة المذكور باضفاء لقب معز الدولة عليه، كما لقب اخاه الثاني بعماد الدولة والثالث بركن الدولة، ثم امر الخليفة بأن تضرب القابهم وكناهم على العملات المحلية من الدرهم والدينار....،
عندما شاع خبر قدوم الجيش الفارسي الى بغداد، ساد الهرج والمرج بين الاهالي واضطربوا، وهرب الأتراك الى الشمال، وهكذا دخل معز الدولة بغداد عام (11 من جمادى الأولى 334 هـ = 19 يناير 946م).. بجيوشه الجرارة بصورة سلمية دون اراقة الدماء، ومهما كانت الظروف الا ان الحياة عادت الى طبيعتها في بغداد وهدات بعد حين.
وقبل ان تستتب الاوضاع الامنية نظر القائد الفارسي شطر الشمال فوجد ان هناك امارة عربية رابضة في الموصل تدعى الدولة الحمدانية قد تشكل خطرا عليه، وفي نشوة الانتصار واصل زحفه باتجاه المدينة المذكورة بغية احتلالها. لكن اميرها ناصر الدولة الحمداني خرج هوالاخرمن الموصل لملاقاة عدوه.
لكن الجيشان لم يلتقيا بل واصلا السير، فالامير الفارسي وصل الى الموصل واحتلها واقام فيها مثلما دخل الامير العربي بغداد وحكمها، وهكذا تبدوالمسئلة على جانب من الطرافة لانها اقرب ما تكون الى المبادلة بين الولايات.
لم يلبث الاميران العربي والفارسي على هذا المنوال طويلا بل تصالحا بعد حين وعاد كل منهما الى عاصمته قالحمداني رجع الى الموصل والبويهي الى بغداد.
اما بشان اصل البويهيين ونسبهم فقد اختلف المؤرخون في تثبيته، ففريق منهم وعلى راسهم الشيخ محمد حسين ال ياسين قال: ان شجرة العائلة البويهية تنحدر اصلا من سلالة ملوك الفرس القدماء احفاد الملك يزدجرد بهرام الساساني، بينما الفريق الاخر ومنهم المؤرخ الشهير مسكويه يقول ان شجرة النسب لاسرة ال بويه في مجملها مجهولة، وان ما قيل ليس سوى محاولة لتمجيد هذه الاسرة طالما ان الباحث لم يشير الى دليل يعتمد عليه اومصدر يستند اليه ولذا يعتبر هذا النسب ملفقا.
يذكرنا هذا الموقف بحالة بعض حكام العرب الذين قفزوا الى قمة السلطة في غفلة من الزمن وارادوا ان يفضوا صفة الشرعية على حكمهم الغير شرعي، فادعوا انهم منحدرون من شجرة نسب توصلهم الى اسرة النبي محمد، كان النميري الذي حكم السودان في السبعينيات من القرن الماضي احد هؤلاء الادعياء.
يقول المؤرخ ابن الاثير حينما استولى معز الدولة على مقاليد الحكم في العراق نادى في الناس الامان ونشر العدل وبدا في اصلاحات كثيرة، فقد انشا اول مستشفى في بغداد وارصد لها اوقافا جزيلة وتصدق بمعظم امواله الخاصة واعتق عبيده ورد كثيرا من الاموال التي صودرت من اصحابها في العهد السابق، انه كان كريما وعادلا.
اما الاخ الثاني ركن الدولة فقد كان واسع الصدر حسن التدبير منزها من الظلم يجري الأرزاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل، كان يحب الصالحين من الناس ويقربهم الى جواره ولذا مال اليه الشعب وعظموه.
كما يقول المؤرخ امير علي : ان البويهيين شجعوا الروح الفنية وعمروا مدارس بغداد وحفروا الجداول وهياؤها للملاحة وبعملهم هذا ازالوا خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق المزروعة. واسسوا في بغداد الكليات للعلوم والاداب .
لقد امتاز عهد البويهيين بالخصب والعطاء خاصة في المجال العلمي والادبي وذلك بفضل تشجيع امرائهم ووزرائهم للثقافة العامة حيث كانوا يستقدمون اشهر العلماء والكتاب من مختلف دول العالم واعتمدوا على الاكفاء منهم في ادارة شوؤنهم السياسية والمالية وبذلك لمعت اسماؤهم وعظمت هيبتهم وطار صيتهم في الافاق فقصدهم اهل العلم والمعرفة من شتى البقاع فاستفادوا وافادوا خاصة في ميادين الفلسفة فكان اثرهم الفكري سابغا وواسعا...هذا ما يقوله المؤرخ الغناوي في كتاب الادب في زمن بني بويه
لقد بلغت الحياة الثقافية في العهد البويهي ذروتها فشملت حقل الاداب بما فيها من نثر وشعر وتطورت الدراسات اللغوية وازدهرت الحياة العقلية وتكاملت العلوم الفقهية وظهرت البحوث في التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وعلم الفلك كما برزت الحركة الصوفية والدراسات الدينية على مختلف مواضيعها من تفسير القرأن الكريم
الى الدراسات التحليلية في الاحاديث النبوية مثلما لجات المذاهب الأسلامية الى منطق العقل والفلسفة الواقعية لتاييد ارائها وبذلك حدثت نهضة علمية كثرت فيها التصانيف والمناظرات ادت بدورها الى ظهور مفكرين رواد واساطين المفسرين والفقهاء والشعراء والفلكيين.
اشتهر الامراء البويهين برعايتهم اهل الفكر من اقمار العلم والادب والمترجمين، ففي عهدهم تولى الوزارة في بغداد العلامة ابومحمد المهلبي الذي افاض على العلماء وفرة من النعمات.
يصرح المؤرخ ابن كثير في كتاب البداية والنهاية قوله: كان الامراء البويهيون معروفون بالسلوك المهذب والادب الرفيع يظهرونه في المحافل الرسمية وكانوا اكثر الناس اتباعا للاصول والمجاملات المتمثلة بالاحترام المفرط حتى اصبحوا مضربا للامثال.
يقول المؤرخ العراقي رشيد خيون في كتابه المذاهب والاديان – كان العهد البويهي يتميز بحرية العقائد وسلك امرائهم سياسة نشر الثقافة فقد شجعوا العلوم والاداب والفنون واشاعوا الحوار والمناظرات الفكرية وكان من ابرز وزرائهم المفكر العربي المعروف صاحب ابن عباد.
وجاء في النجوم الزاهرة – لقد ازدهر الفن زمن البويهيين في كل مجالاته وبرع الفنانون الفرس في دقة مزج الالوان واتقان النقوش الهندسية وكانت شهرتهم في فن النقش لها صداها في سائر البلدان حتى وصلت عبقرية المصورين عند بعضهم الى وضع رسوم المنسوجات وخاصة على السجاد العجمي الشهير،
فاتقنوا صنعها وتفننوا في زخارفها حتى وصلت درجة النبوغ الفني عندهم في الهندسة المعمارية مرتبة الاستاذية الفائقة وتجلت معالمها في روعة العمائر الفخمة وفي بهاء المنائر الدينية وعظمة القبب المطعمة بنقوش الفسيفساء الملون، والتي لازالت بغداد تزخر ببعض اثارها حتى يومنا هذا رغم مرور اكثر من الف عام على انشائها.
ويعد عماد الدولة علي بن بويه مؤسس هذه الدولة، وكان متصفًا بالحكمة والأناة، اتخذ من شيراز قاعدة لدولته، وخص أخويه بمنطقة يحكمها كل واحد منهما باسمه، فكان الجزء الشمالي من بلاد فارس تحت حكم ركن الدولة حسن بن بويه، أما العراق فكان يحكمها أخوه الأصغر أحمد بن بويه
.
وبعد موته انتقلت رئاسة البيت البويهي إلى ركن الدولة سنة (338هـ = 949م)، وانتقلت عاصمة البويهيين إلى "الري" حيث كان يقيم ركن الدولة، وتولى ابنه عضد الدولة حكم شيراز. (1)
يقول المستشرق متز – في كتاب الحضارة الاسلامية – كان عضد الدولة يمثل الحاكم تمثيلا حقيقيا فقد حرص على جمع الاخبار وايصالها بسرعة غير معهودة، فكانت تنتقل بين بغداد وشيراز ببلاد فارس في سبعة ايام اي بمعدل 150 كيلومتر في اليوم الواحد بعدما طهرت الطرقات من السراق واللصوص ومحي اثر قطاع الطرق
ووطد الامن في صحراء الجزيرة العربية واصبحت لقوافل الحجاج سواقي مياه بعدما حفروا الابار وفجروا الينابيع واقاموا السدود كما امر عضد الدولة ببناء سوق
البزازين في بغداد والزم ابناء الشعب ببناء دور سكنية لهم ومن قصرت يداه اقرضته الدولة من بيت المال. ومن اعماله الاصلاحية ازالة مطارح الاوساخ والقاذورات من مختلف مناطق بغداد وتحويلها الى مناطق خضراء رحبة جلب اليها من بلاد فارس
مختلف انواع المغروسات.
كما امر ببناء الجسور والقناطر واقامة نظام السقاية فكان باعثا قويا لجذب جماعات غفيرة من عرب البادية الرحل الى الاراضي المستصلحة وتشجيعهم على حياة الاستقرار وممارسة الزراعة ، وكان ضمن اعماله العمرانية اهتمامه ببناء الجوامع واقامة دور ضيافة لاستقبال القادميين من الزوار الى العتبات المقدسة في العراق، فضلا عن انشائه معابد لليهود وكنائس للنصارى ومساعدته اياهم في شتى المجالات...
وكان يوزع المال سنويا على الأرامل واليتامى...ويتبرع للحجاج الحفات سنويا ثلاثة الاف دينار لشراء الأحذية وعشرة الاف درهم لتكفين الموتى من الفقراء ولم يمر بماء جار الا وبنى بجانبه قرية وكان يمد المال الى اصحاب الدور الكائنة على طريق الحج ليقدموا العلف الحيواني لدواب المسافرين الى بيت الله الحرام
. البيمارستان العضدي
ان أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نسب إليه، فعرف باسم البيمارستان العضدي، أقامه سنة (371هـ = 1092م) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم عضد الدولة بعضهم للعمل في البيمارستان في أماكن مختلفة، وبين هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبويعقوب الأهوازي، وأبوعيسى بقية، والكحال أبونصر الرحبي، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان أبوالحسن ثابت بن سنان.
والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أودار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى "مارستان" التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.
وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).
ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.
وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين. (1)
رسالة من مريض إلى أبيه
ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته المستشرقة الألمانية "سيجريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تطلع على الغرب" عن مريض كان يعالج في أحد مستشفيات قرطبة كتب رسالة إلى أبيه يصف له ما وجده من غيابه في المستشفى، يقول:
"لقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحمّني حمامًا ساخنًا، وألبسني ثيابًا نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرًا نحواليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الخارجي مرورا عابرا، فإذا سمعت موسيقى أوغناء ينبعثان من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النُقَّه (جمع ناقه) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.. واليوم صباحًا جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه.
ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحًا، وبوسعي الخروج قريبًا من المستشفى صحيح الجسم معافى، وإني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرّة وثيرة وأغطيتها من الدمقس الأبيض، والملاء بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تدفأ كل الغرف...".
وكانت تلك البيمارستانات تُرصد لها الأوقاف؛ ليصرف من ريعها على رواتب الأطباء والعاملين، علاج المرضى، وخصص لإدارتها ناظر يقوم على أمرها وعلى الأموال والأوقاف المخصصة لها، وكان هذا المنصب من الوظائف الديوانية العظيمة في الدولة لا يُختار له إلا الأكفاء من ذوي القدرة والأمانة.
اما في مجال الثقافة فكان عضد الدولة يشجع العلماء امثال الشيخ المفيد، (صاحب المؤلفات العديدة) ويجزي العطاءعلى الفحول من الشعراء ضمن سياسته العامة في تشجيع الاداب حتى وصل الامر بابي الطيب المتنبي ان ينشد قائل: