( باب المجاهدة)
قال الله تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت 69 ]
----------------
المجاهدة: مفاعلة من الجهد، فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها، وهي تجاهده بضد ذلك. قال بعض العلماء: جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. وجهاد العدو هو الجهاد الأصغر.
قال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل (8) ]
----------------
: أي: انقطع إليه يقول تعالى: {واذكر اسم ربك} ، أي: أكثر من ذكره، وأخلص واجتهد في وقت فراغك.
قال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر (99) ] .
----------------
أي: الموت
قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة (7) ] .
----------------
في هذا الآية تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد ثوابه عند قدومه على ربه.
قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} [المزمل (20
----------------
أي ما أخرجتم لله خير لكم وأعظم أجرا عند الله مما ادخرتم.
قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة (273) ] .
----------------
يعني: فيجزيكم بخير منه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» . رواه البخاري.
----------------
«آذنته» : أعلمته بأني محارب له. «استعاذني» روي بالنون وبالباء. الولي: من تولى الله بالطاعة والتقوى، فإن الله يتولاه بالحفظ والنصرة. وفي الحديث: الوعيد الشديد لمن عادى وليا من أجل طاعته لله عز وجل. وأن أحب العبادة إلى الله أداء فرائضه. وأن من تقرب إلى الله بالنوافل أحبه، ونصره، وحفظه، وأجاب دعاءه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فلا ينطق بما يسخط الله، ولا تحرك جوارحه في معاصي الله.
عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال: «إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة» . رواه البخاري.
----------------
معنى هذا الحديث: أن من تقرب إلى الله بشيء من الطاعات ولو قليلا قابله الله بأضعاف من الإثابة والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زاده في الثواب، وأسرع برحمته وفضله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» . رواه. البخاري.
----------------
في هذا الحديث: أن من لم يعمل في فراغه وصحته فهو مغبون. قال الله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} [التغابن (9) ] . وفي الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» .
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» . متفق عليه، هذا لفظ البخاري. ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة.
----------------
في هذا الحديث: أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه إذا لم يفض به إلى الملل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» . وفيه: أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان
عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر. متفق عليه.
----------------
والمراد: العشر الأواخر من شهر رمضان. و «المئزر» : الإزار، وهو كناية عن اعتزال النساء. وقيل: المراد تشميره للعبادة، يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت وتفرغت له. في هذا الحديث: الجد والاجتهاد في العبادة، خصوصا في الأوقات الفاضلة، واغتنام صالح العمل في العشر الأواخر من رمضان؛ لأن فيها ليلة خير من ألف شهر.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان» . رواه مسلم.
----------------
المؤمن القوي، هو من يقوم بالأوامر ويترك النواهي بقوة ونشاط، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم، ويصبر على أذاهم. وفي الحديث: الأمر بفعل الأسباب والاستعانة بالله. وفيه: التسليم لأمر الله، والرضا بقدر الله.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره» . متفق عليه.
----------------
وفي رواية لمسلم: «حفت» بدل «حجبت» وهو بمعناه: أي بينه وبينها هذا الحجاب فإذا فعله دخلها. في هذا الحديث: أن الجنة لا تنال إلا بالصبر على المكاره، وأن النار لا ينجى منها إلا بفطام النفس عن الشهوات المحرمة.
عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم» فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى» فكان سجوده قريبا من قيامه. رواه مسلم.
----------------
في هذا الحديث: فضل تطويل صلاة الليل، قال الله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} الزمر (9) ] .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء! قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه. متفق عليه.
----------------
في هذا الحديث: أنه ينبغي الأدب مع الأئمة، بأن لا يخالفوا بقول، ولا فعل مالم يكن حراما، فإن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء.
عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله» . متفق عليه.
----------------
في هذا الحديث: الحث على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» . رواه البخاري.
----------------
في هذا الحديث: الترغيب في قليل الخير وإن قل، والترهيب عن قليل الشر وإن قل. وأن الطاعة مقربة إلى الجنة، والمعصية مقربة إلى النار، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة (7، 8) ] في هذا الحديث: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أهل الصفة - رضي الله عنه -، قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: «سلني» فقلت: اسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أو غير ذلك» ؟ قلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» . رواه مسلم.
----------------
في هذا الحديث: الحث على الإكثار من الصلاة، وأنه يوجب القرب من الله تعالى، ومرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، وقد قال الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء (69) ] ، وقال تعالى: {واسجد واقترب} [العلق (19) ] .
عن أبي عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن ثوبان - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... «عليك بكثرة السجود؛ فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» . رواه مسلم.
----------------
سبب رواية ثوبان لهذا الحديث: أن معدان بن طلحة قال: أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة؟ - أو قال بأحب الأعمال إلى الله - فسكت، ثم سأله، فسكت، ثم سأله الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «عليك بكثرة السجود ... » . الحديث. وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال ثوبان.
عن أبي صفوان عبد الله بن بسر الأسلمي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس من طال عمره، وحسن عمله» . رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن» .
----------------
«بسر» بضم الباء وبالسين المهملة. في هذا الحديث: فضل طول العمر إذا أحسن فيه العمل. وفي بعض الروايات: «وشركم من طال عمره وساء عمله» .
عن أنس - رضي الله عنه -، قال: غاب عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - - يعني: المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع! قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب (23) ] إلى آخرها. متفق عليه.
----------------
قوله: «ليرين الله» روي بضم الياء وكسر الراء: أي ليظهرن الله ذلك للناس، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر، والله أعلم. في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الجهاد وبذل المرء نفسه في طلب الشهادة، والوفاء بالعهد.
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء رجل آخر فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا! فنزلت: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} [التوبة (79) ] . متفق عليه.
----------------
و «نحامل» بضم النون وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة ويتصدق بها. قوله: (لما نزلت آية الصدقة) قال الحافظ: كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} الآية [التوبة (103) ] . قوله: «وجاء رجل فتصدق بصاع» ، وكان تحصيله له بأن أجر نفسه على النزع من البئر بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدق بالآخر. وفي هذا: أن العبد يتقرب إلى الله بجهده وطاقته، وحسب قدرته واستطاعته.